الشاعر محمود توفيق: دَمْعٌ على طَلَلْ ...

دَمْعٌ على طَلَلْ ...


دَمْعٌ على طَلَلْ ...


" بُكائيةٌ على دَولةٍ للمثَلِ الأعلى "


فما لعينيكَ إن قُلت اكففا هَمَتا


وما لقلبكَ إن قُلتَ استفِق يَهِمِ


لولا الهوى لم تُرِقْ دَمعاً على طَلَل


ولا أرِقْـتَ لذِكْرِ البان والعَلَم


فكيفَ تَكتُـمُ حُبَّاً بّعدما شَهِدَتْ


به عليكَ عُدول الدَمعِ والسَـقَمِ


نَعمْ .. سَرَى طَيْفُ مَنْ أهوَي فأَرَّقَنِي


والحُبُّ يَعْتَرِضُ اللذَّاتِ بالأَلمِ


البوصيري

من قصيدة البُردة



(1)


ما الذي أَخْرسَ فيكَ الكلماتْ ..


أيُّها الشاعِرُ .. يارَبَّ القَلَمْ ؟


أتُرى فاضَتْ بِحارُ الظُلماتْ ..


أمْ أحْسَسْتَ أن الكَونَ ماتْ ..


عِندما هَبَتْ أعاصيرُ العَدم !


....


أنتَ يا حامِل أثقالِ الوجودْ ..


أنتَ يا وارِثَ أحزانِ البَشَرْ ..


أيها التائهُ في الماضي البَعيْدْ ..


أيها الهارِبُ من سِجْنِ القَدَرْ ..


أيها المفتونُ بالفَجْرِ الجديدْ ..


والمُغَنِّي للربيعِ المُنْتَظَرْ !


اقهَرْ العَثْرَةَ .. واصْبِرْ للشقاءً ..


وتَجلَّدْ لتصاريفِ القَضاءً ..


واجِهْ المِحْنَةَ .. لا تَجزَعْ لها ..


واعتصمْ بالصبَرِ من هذا البَلاءً ..


وارْتَفِعْ فوقَ غياباتِ الأسى ..


وتَشَبَّتْ ببقايا الكِبرياء !


....


قُمْ مِنَ الوَهْدَةِ .. وارفعْ هامَتَكْ ..


نَحِّ عَنْكَ اليأسَ .. والحُزْنَ المُقيمْ ..


وابعثْ الصَيْحةَ مِن قلبِ الضَنى ..


واغمِسْ الريشَةَ في بَحْرِ الهُمومْ ..


وارْوِ للتاريخِ مأساةَ الوَرى ..


ومُصابَ العَصْرِ .. والخَطْبِ العظيم !



(2)


كانَ سُدْسُ الأرضِ سِجْناً عاتياً ..


يَتوارى في ظلامِ القَيصريةْ ..


كانَ مَلهى قِلَّةٍ ناعِمَةٍ ..


وجَحيماً قَاتِلاً للأكثرية ..


حَدَّثَتْنا عَنهُ أطيافٌ سَرَتْ ..


مِن مآسي ديستيوفسكي الشَجِيَّةْ ..


ورواياتِ تُولستوىَ التي ..


أفْعَمَتْ بالحُزْنِ قَلْبَ البَشريةْ ..


كم تَلَظَّى الشَعْبُ في وَقْدَتِهِ ..


كم تَردََّى في مَهاوي الجَاهليةْ !


....


وأتى لينينُ من قَلبِ الدُجى ..


ثائراً .. يرفعُ راياتِ الكِفاحْ ..


يَبْعَثُ الآمالَ من مَرْقَدِها ..


ويُزيحُ الليلَ عن وَجهِ الصَباح !


جاءَ والشعبُ مَهِيضٌ أَعْزَلٌ ..


وفؤادُ الشَعْبِ تُدميهِ الجِراح ..


فمضَى يُوقِظُ في أعماقِهِ ..


جَذَوةَ الحَقِّ .. ويّدعو للسِلاح ..


فإذا بالشعبِ بَحرٌ هادِرٌ


وإذا بالظُلمِ تذروهُ الرياح !


....


يالها مِن ثَورَةٍ خَلاَّقَةٍ ..


بَعَثَتْ في الشَعبِ روحاً تَتَوَقَّدْ ..


واستثارتْ فيه شَوقاً جَارِفاً ..


للبطُولاتِ .. وعَزْمَاً يَتَجَددْ ..


وأقامتْ دولةً الشَعْبِ على ..


شِرْعَةِ الإنصافِ والعَدْلِ المؤكدَّ ..


دَولةً يَنْهَضُ في أرْجائِها ..


مَثَلٌ أَعلى .. وحُلْمٌ يَتَجَسَّدْ ..


مِثلَها لم يَعرِفْ الناسُ ولمْ


يَشْهَدْ التاريخُ مِن بَعْدِ " مُحَمَّدْ " ..


....


زعموا لينينَ في ثورَتِهِ ..


" فيصراً " يُبعَثُ في ثَوبٍ جَديدْ ..


إن يكنْ لينينُ أضْحَى قيصراً


فهو القيصرُ من نوعِ فريدْ ..!


قد شَهِدنا في سُمولني عَجَباً :


مَسْكنَ " القيصرِ " في القَصرِ العَتيد


غُرْفَةً عاريةً ليس بها


مِن أثاثٍ .. غيرَ كُرْسيٍ وحيدْ ..


وصوانٍ ناصِلٍ من خَشَبٍ


يتداعى .. وسريرٍ من حديد !


غُرفةً لا يَرْتضيها طالبٌ


"أزهَرِيٌ " .. جاء من أقصى الصعيد !


إنه الزُهْدُ الذي نَعْرِفُهُ


في نَبِيٍ .. أو وَليٍ .. أو شَهيد ..


وهو الإخلاصُ في ذِرْوَتِهِ ..


عندما يُصْبِحُ في بَأْسِ الحديد !


....


كان لينينُ حبيبَ الفُقراءْ ..


ونصيرَ الكادحينَ البُسطاءْ ..


وبَشِيرَ الصُبْحِ في أيامِهمْ


يَبْعَثُ الفَرحَةَ فيها والرَجاء


كان يُوْلِي الشَعْبَ قَلباً حانياً


وارِفَ الرَحمَةِ .. مَوصولَ العطاء


ومنَ الرَحْمة عَزمٌ ومَضاءً ..


ومن الرَحْمةِ عَدلٌ .. وإخاءْ ..


ومن الرِحمَةِ سَيفٌ قاطِعٌ ..


يَمْحَقُ الظُلْمَ .. ويَحْمي الضُعفاء !


....


(4)

أينَ فِتيانُ الأورورا.. أينَ أبطالُ الجهادْ ..

أينَ من خَاضُوا المنايا .. فب لَظى ستالينجراد !

....

اينَ من صَدّوا جُموعَ الهِتلريينَ الغُزاةْ ..

وحَمُوا الدُونيا مِنَ الفاشيسْتِ أعداءِ الحياةْ !..

....

وجُموعٌ أقْبَلَتْ كالموجِ من خَلْفِ ستالينْ ..

تَقْطعُ الأهوالَ .. والأوحالَ .. للنصرِ المُبين !..

....

والملايينُ التي عاشتْ وماتَتْ للعطاءْ ..

وهى تَبنِي جَنَّةَ الأحلامِ في دُنيا الشَقاء !..

....

وطُموحٌ للمعالي .. واقتحامٌ للصعابْ ..

ووميضُ النجمةِ الحمراءِ من فوقِ القَباب !..

....

وصناعاتٌ أُقيمتْ .. بقلوبِ الكادحينْ ..

وسلاحٌ يَردَعُ البَغْيَ .. ويَحمي الآمنين ..

....

وسهوبٌ شاسعاتٌ .. ذَلَلَتها القَاطراتْ ..

وسماواتٌ تباهتْ .. بألوفِ الطائرات ..

....

والأساطيلُ التي تَمْخُرُ أمواجَ البِحارْ ..

والصواريخُ التي تَعبُرُ من كُلِّ مَدار ..

....

وربوعٌ عامراتٌ .. وعلومٌ وفُنونْ ..

أيْنَعَتْ كالسَوْسَنِ الرَطْبِ على كلِ الغُصون !..

....

فَمنَ السيركِ فنونٌ .. جاوَزَتْ حَدَّ الكمالْ ..

ومن البولشوي إعجازٌ وسِخْرٌ لا يُنَالْ !..

....

وجَجارينُ الذي فضَّ مَغاليقَ الفَضاءْ ..

وفالنتينا التي أضْنَتْ قلوبَ الشُعراء ..

....

واحتفالاتٌ بمايو .. وأكاليلُ الزُهورْ ..

واحتفالاتٌ بأكتوبرَ والعرضُ الكبير ..

....

وأناشيدٌ عِذابٌ .. عنْ ربيعِ البشريةْ ..

ونداءٌ للتآخي .. في ظِلالِ الأُمَمِيَّةْ !..

....

يالها من صَيحةٍ دَوَّتْ باسْماعِ البَريةِ ..

أطْلعَتْ فجراً جديداً .. في ظَلامِ العُنْصُريَّةَ ..

....

من فيتنامَ لكوبا .. للصحاري العَربيةْ ..

ومِنَ القُطبِ إلى غاباتِ أفريقيا القَصيَّة ..

....

ومَعوناتٌ .. وتعليمٌ .. ودَعمٌ بالسِلاحْ ..

لشعوبٍ تَكسِرُ القَيْدَ وتَمضي للكفاحْ ..

....

ودفاعٌ عن ضحايا الظُلمِ .. والفيتو الشَهيرْ ..

نُصْرةً للحقِّ .. والعَدْلِ .. وتقريرِ المَصير !..

....

(5)


كُل هذا المجدِ والسؤدُدِ .. منذا بَعْثَرَهْ ؟..

كُلُّ هذا الهيكلِ الجبَّارِ .. منذا دَمرَّه ؟..

أتُراهُ كان صرحاً .. قائماً فوقَ الرِمالْ ..

أمْ تُراهُ كانَ كالأوهامِ .. أو نِسْجِ الخيال !..

أو تُراهُ كانَ كَنْزاً .. مِنْ تُراثِ الأقدمينْ ..

فغدا اليومَ هَبَاءً .. في أكُفِّ الوارثين !!..


(6)


عُصْبةُ الأشرارِ .. ماذا حَقَّقَتْ ..

غيرَ هذا العارِ .. والخِزْي الكبيرْ !

صارَ جورباتشوفُ وجهاً ثانياً

ليهوذا .. صاحبِ الجُرمِ الشهير

باعَ مَجْدَ الرَبِّ في عليائِهِ

وعبادَ الرَبِّ .. بالنَزْرِ اليسير !

وغدا يلسِنُ ثَوراً هائجاً ..

زائغَ النظرةِ .. مُختلِّ الشُعور

وطُفيليونَ من أذْنابِهِ..

من شُهودِ الزورِ مَعْدمي الضَمير

يالها مهزلةٌ ما شَهدَتْ

مثلهاَ الدُنيا .. على مَرِّ العُصور ..

بلْ هي المأساةُ في ذِروتها ..

تَملأُ الأرضَ بِشَرٍ مُستَطير !

....

زَعَموا ما حَقَقُوا حُريةً..

وهي ذُلٌ .. وهَوانٌ .. وقُيودْ !

إنها حُريةُ النهبِ التى

صالَ فيها كُلُّ شيطانٍ مَريْدْ

وهى جُوعٌ وضياعٌ كاملٌ

للملايين .. وعَصفٌ بالوجود

وارتماءٌ في متاهاتِ الأسى ..

وظَلامِ اليأسِ .. والبؤسِ الشديد

وانقيادٌ لعَدُّوٍ غادرٍ ..

وضياعُ الأمْنِ والمجدِ التَليد!

إنمـــا الحُريَّـــــةُ الحَقَّـــةُ مـــــــــــا

فَتَحــتْ للناسِ أبوابَ الرجاءْ

وأحاطَتهمْ بِظلٍ واردفٍ

من أمانٍ .. وحَنانٍ .. ورخَاءْ

وأقامتْ دَوْلةَ الشَعبِ على

شِرْعَةِ العَدلِ .. ودُستورِ .. والإخاء

حَيْثُ لا يوجَدُ طِفلٌ جائِعٌ ..

لا .. ولا تُسْلبُ أعراضُ النِساءْ ..

بلْ يعيشُ الكُلُّ في أوطانِهمْ

رافِعي الهاماتِ .. مَوفوري الإباء !

....

(7)


مِصْرُ لا تَنسَى المُروءاتِ .. ولا

تُنْكِرُ المعروفَ .. والفضلَ الكبيرْ !

ليسَ يَنْسَى الفَضْلَ إلا جاحدٌ ..

ساقَطُ الهِمَّةِ .. مَعدومُ الضمير

كيفَ نَنْسَي الميجَ ؛ والمِدْفَعَ ؛ والصاروخَ

والإنذارَ .. والقيتو الجَهير !

وأساطيلَ أتتْ بالقَمحِ رَغْمَ

الحَظْرِ ؛ والتهديدِ ؛ فى اليومِ العَسير

وجهوداً مخلصاتٍ من رجالٍ ..

شاركوا في سَدِ أسوانَ الشهيرْ ..

ليفيضَ الخِصْبُ فى الوادي ويَجْرى

الماءُ بالنُصْرَةِ والخَيرِ الوفير

....

نَحنُ لا نُنكِرُ آياتِ الهوى ..

لا .. ولا نُخفى تباريحَ الفؤاد ..

وحَنيناً لعُهودٍ قًد خَلَتْ ..

ورفاقٍ أسعدونا بالوِداد ..

وربُوع لم تَزَلْ فِتنتُها ..

تأسِرُ القَلبَ .. وإنْ طالَ البَعاد !

فإذا غَرَّدَ طَيْرٌ والِهٌ ..

أو تراءى البَراقُ في ليِل السُهاد ..

فبعينىْ عَبْرةٌ مُهراقَةٌ ..

وبقلبي جَمرَةٌ تَحتَ الرماد !

....

بعد يومٍ .. بعد عامٍ .. بعد جيلْ ..

سوف َ يَصحو الناسُ من نومٍ ثقيلْ

ويُفيقُ الشَعبُ من غَشيتِةِ ..

وتعودُ الروحُ للحُلْمِ الجميل

ويعودُ الصُبحُ صَحْواً مُشْرقاً ..

يَتَحدَّى ظُلمَةَ الليل الطويل

وتَعُمُّ الأرضَ في نَشْوتِها

هِوَّةُ الفرحةِ .. والشوقِ النبيل

فدوامُ الحال وَهْمٌ باطِلٌ

وهو ضَرْبٌ من ضُروبِ المُستحيل !

ليست هناك تعليقات :

إرسال تعليق