الشاعر محمود توفيق: ثُلاثيات فى الحُبِّ

ثُلاثيات فى الحُبِّ

ثُلاثيات فى الحُبِّ

أحقاً عَشِقْتَ..أحقاً خْلِقْتَ..
أحقاً عرفتَ مَذاقَ الحياةْ
أحقاً مررتَ بذاك الغديرِ..
أحقاً سَمِعْتَ خرير المياة..
أحقاً سَعِدتَ..أحقاً شَقيتَ..
بوَمْضِ العيون وسِحْرٍ الشفاة!
***
أحقاً ثمِلتَ بخمر الغرامِ..
وأترعْتَ كأسَكَ من نَشوَتِهْ..
وحَلَّقتَ كالطائر المُستهامِ..
طَليقَ الجناحين فى جَنَّتِه..
يَطيرُ بكَ الوجدُ صَوْبَ الغمامِ..
وتهفو إلى النجم فى رِفْعَته!
***
أحقاً تجرَّعتَ كأسَ الفِراقِ..
ومادتْ بكَ الأرضُ عِندَ اللقاء..
وزُلزِلتَ من خفقةٍ فى الضلوعِ..
ومن رِعْدَةٍ قد سَرَتْ فى الدماء..
كأنكَ تَشهد خَلقَ الوجودِ..
وتعرُجُ فى مَلكوتِ السماء!
***
وأما انا..فشربْتُ الرحيِقَ..
ولاح لعينىَّ سِحرُ الشَفقْ..
وأينعَ فى القلب وردُ الربيعِ..
وباحَ بِفِتْنَتِهِ والعَبقْ..
كأنى أُطالع سرَّ الحياةِ..
ويغمُرنى نورُه والألَق!
***
دعانى الهوى فأجبتُ النداء..
وحَلَّقتُ بالشوق صَوْبَ القَمَرْ..
وأسلمتُ قلبى لعصفِ الرياحِ..
وأوصدتُ سمعى لصوتِ الحذر..
فقد كنتُ أعرف أن الغرامَ..
قضاءٌ..وأن المنايا قدرْ!
***
أتعرِفُ يا فاتِنى أننى
عَشقتُكَ من قبلِ أن نلتقى!..
وقَبْلَ ابتسامةِ ثَغْرِ الزمان..
عن الصُبحِ من وجهكَ المُشرِق..
ومن قبلِ أن تستبى ناظرىَّ
مَلاحةُ جِيدِك والمفرِق!
***
عَشقْتُكَ مُنذُ عرفتُ الحياة..
وأبحرتُ فى موِجها الزاخرِ..
ومنذُ ثَمِلتُ بخمرِ الجمال..
وحَلَّقْتُ فى أفقِهِ الساحرِ..
كما حَلَّقَ الطَيرُ صَوْبَ النجوم..
مشوقاً إلى ضوئِها الباهرِ!
***
عشقتُكَ فى الوردةِ الناضرة..
وفى النِسمةِ العذبة الحائرة..
وفى بَسماتِ الصباح الطروب..
وفى رَوعةِ الليلة المُقمرة..
وفى لوعةِ البُلبُل المُسْتهامِ..
ترنَّم فى الروضةِ الزاهرة!
***
بعينيكَ خِصْبُ زمانِ الشبابِ..
ومَيْعَةُ أيامِهِ الواعدةْ..
وأضواءُ فَجرٍ بَدتْ من بعيدٍ..
تُطِلُّ على القِمَّةِ الصاعدة..
وعُمْقُ الدُجى..وجَلالُ المُحيطِ..
وفَيضٌ من الجَذوَةِ الخالدة!
***
أيا روضةً قد كساها الربيعُ..
ينُضرةِ أزهارهِ العاطرةْ..
ورَوَّى مَفاتنها من نداهُ..
ومن روحِهِ العذبةِ الساحرةْ..
تَهيمُ النواظرُ فى حُسنها..
وتَرتَدُّ خاشعةً حاسرة!
***
وياغادةً يَصطفيها الجَمالُ..
فيسطعُ من نحرِها والجبينْ..
ويُشرِقُ من جيدها المرمرىَّ..
ضِياءٌ تَلأُلأَ للناظِرِين..
كما تطُلعُ الشمسُ للحائرين..
ويبدو سنى البدرِ للعاشقين!
***
ويا جَنةً طابَ فيها المُقامُ..
ورَقَّتْ عليها ظِلالُ السلامْ..
تَمثَّلَ فيها نعيمُ الوجود..
وأينعَ وردُ الهوى والغرام..
يلوذُ بأعتابها العابدون..
وتهفو إليها قُلوبُ الأنام
***
تَبَسَّمَ من شفتيكَ الربيعُ..
وأينعَ من ثَغرِك الأُقحوانْ..
وأشرقَ وجهُ الحياة الضحوكُ..
ولاحتْ بشائرُ صفوِ الزمان
فما أسعدَ الكونَ إذ يحتويك..
وإذ تحتويه بهذا الحنان!
***
أتعرف ان فؤاد اُلمحِبِّ..
أرَقُّ من الزهرة الواجفةْ..!
وأوهنْ خفقات النسِيمِ..
تَنَهَّدَ فى الليلة الصائفة..
تطير به نفحاتُ الحنان..
وتأسِرُهُ لمسةُ العاطفة!
***
يَهيبُ بىَّ العقلُ أن أستفيقَ..
وأن أستَجيبَ لداعى النجاةْ..
ولكنِّ بى لهفةً للجمال..
وبى ظمأٌ لرحيقِ الحياة..
وبى وَلَهٌ بوميضِ العيون..
وبَرْدِ الثنايا..ووردِ الشفاه!
***
تباركتَ يامَنْ خلقتَ الجمالَ..
وأبْدَعْتَهُ فِتنةً للنواظرْ..
ويامَن مَلكتَ زمامَ القلوبِ..
وقَلَّبتَ أهواءَها والمشاعرِ..
وقَدَّرْتَ أفراحَها والشقاء..
وألهمتَها ما تُكِنُّ السرائر!
***
ولم أرَ كالحُبِّ مِن فَرْحَةٍ..
ولم أرَ كالهجر مُرَّ المَذاقْ..
وما فرَحةُ العيشِ إلا الوصالُ..
وما وَحْشَةُ الموتِ إلا الفراقِ..
وما الوصلُ إلا اتحادُ القلوبِ..
وما هو فى قُبلةٍ أو عِناق!
***
تَجَرَّعْتَ فى الهَجر كأسَ الشَقاء..
ومازِلْتَ تصبو إلى الهاجرينْ..
تروحُ تُواجِهُ عصفَ الظُنونِ..
وتغدو تُكابدُ نَارَ الحنين..
كأنكَ أدمنتَ وقعَ الجِراحِ..
وأسلمتَ قلبكَ للطاعنين!
***
ولولا الهوى ما عَرفتَ الهوانَ..
ولاذُقت فى الهَجر كأسَ العذابْ..
ولا أرسلتْ مقلتاكَ الدموعَ..
على زَمنٍ قد تولَّى وغاب..
ولا ذَكَّرتكَ رياحُ الخريفِ..
بِفَجرِ الصِبا وربيعِ الشباب!
***
فوا شجناً إذ تولى الزمانُ..
وولى الشبابُ..وحَلَّ المَشيبْ..
ووا حَزَناً من جُحودِ الصديقِ..
وغدرِ الرفيقِ..وهجرِ الحبيب..
ووآألَماً من نَزيفِ الجِراحِ..
وقَلبٍ تَحيَّر فيه الطبيب!
***
أتذكُرُ أيامَكَ الزاهياتِ..
وعَهداً تولَّى كَمَرِّ السِحابْ..
إذْ العيشُ كالروضِ قد نَضَّترَتْهُ..
ظِلالُ الصِبا..وربيعُ الشباب..
وإذ أنتَ تمشى خفيفَ الخُطى..
طليقَ الجناحين..غَضَّ الإهاب..
***
أتذكُرُكم نَالَ منكَ الجمالُ..
وكمْ عَذَّبَتْكَ الوجوهُ المِلاحْ..
وكم يستبيكَ بَريِقُ الشِفاه..
وومضُ العيونِ المِراضِ الصِحاح..
طعيناً..يُواجِهُ عَصفَ الرياح!
***
وإذ أنتَ والحُبُّ كالتوأمين..
كغُصنين فى كَرْمَةٍ واحدة..
بَراها الذى فَطَرَ الكائناتِ..
وأودَعهَا الجذوةَ الخالدة..
فَراحتْ تُسَبِّحُ رَبَّ الوجود..
وخَرَتْ لقُدرته ساجده!
***
قطعنا إلى الحُبِّ كُلَّ القِفارِ..
وجُبنا إليه البحارَ القَصِيَّةْ..
سلكنا إليه دُرُوبَ الجبالِ..
بلغنا به القِمَ العسجدية..
نزلنا إليه الشُطوطَ الحِسانَ..
حللنا به الجنَّةَ السُندسية!
***
أقمنا به فى ظِلالِ الكرُومِ..
وخُضنا به غمراتِ الهُمومْ..
فما نالَ منا زمانُ العذابِ.
ولا غيَّرتْنا ليالى النَعيم..
ويأتى الزمانُ..ويمضى الزمانُ..
ومازالَ فينا الضِرامُ القديم!
***
سلامٌ على الحُبِّ فى الأولينْ..
سلامٌ على الحُبِّ فى الآخرينْ..
سلامٌ على خَفْقِهِ فى الضُلوعِ..
سلامٌ على وَمْضِهِ العيون..
سلامٌ تَفيضُ له المُقلتان..
ويطغى على النفسِ شَجوٌ دفين!
***
سلامٌ على الحُبِّ ما رتَّلتْهُ..
قلوبُ المحبين بين الضلوعْ..
وما غَرَّدَ البلبلُ المسْتَهامُ..
وأينعَ فى الروضِ زَهرُ الربيع
على ذِكْرِهِ يَشربُ العاشقون..
وإن مَزجوا كأسه بالدموع!

ليست هناك تعليقات :

إرسال تعليق