الشاعر محمود توفيق: رثاء فنانه

رثاء فنانه

رثاء فنانه

"فى رثاء الفنانة أم كلثوم.

وقد كتبت القصيدة سنة 1959 وأم كلثوم حية

حين بلغ الشاعر - فى سجنه - نبأ غير صحيح عن وفاتها"

ذلك السَّرُّ وما أعمقَ سِرَّه
ذلك الكأسُ وما أفجعَ خمرَه
ذلك الخطبُ وما أفدحَ شَرَّه
ذلك الموتُ .. متى نُدرك أمره؟
قد شربنا كأسه منذ الخليقه
وتجرعنا مرًّا .. كالحقيقة !
ك جيلٍ راحَ يجتازُ طريقه ..
دون أن يرجِعَ جيلٌ بالحقيقة !

قطفتْ كفاه أزهارَ المُنى
وهَوَتْ فى ليله أنجُمنا
وخَبَتْ فى ظِلِّه أحلامنا
وذَوَتْ فى هَوْلِه أيامُنا

أنشدى يا ربةَ الشِّعرِ ونُوحِى
وأبيحى دمعك الغالى أبيحى
وخُدى الألفاظ من قلبى الجريح
ومعانى الشِّعْر من أعماق روحى

سَكَتَ القلبُ الذى أيقظ قلبى
لشبابٍ واسع الآفاق رَحْبِ
والذى غنَّى مع الأيام حُبِّى
بنشيدٍ رائع الألحا عَذْبِ

سكت القلب الذى كان صدَاهْ
بهجةَ الدنا وأفراحَ الحياة
والذى رَفَّ على الحُبِّ هواه
فاستعاد الحبُ أحلام صِباه

والذى أطلق آهاً بعد آه
لوعةً مشبوبةً عَبْرَ الشِفاه
والذى أشعَلَ من نار جواه
لهباً لم ينطفىء يوماً لظاه

سكت القلبُ الذى صاغَ الأملْ
طائراً .. للحُبِّ يشدو والغزل
وأغاريدَ لِقاءٍ .. وقُبَل ..
وأناشيد  حياةٍ  وأمل

طائراً حُرَّ الجناحين يحومْ ..
فوق وديان زهورٍ ونجوم
همسُهُ ينسابُ فى خفق النسيم
رُوحه رنةُ قيثارٍ عظيم

والذى غنَّى لوادينا الجميلْ ..
للمروجِ الخُضر .. للظلِّ الظليل ..
للسنى يغُمرُ أطراف النخيل ..
لبهاء النيل فى شمس الأصيل

والذى غنى اأضواء القمرْ
والليالى .. وأحاديث السمر
والذى قد شَفَّهُ طولُ السهر
فتغنى باللقاء المنتظَر ..

سكت القلب الذى حيا النضالْ
ودعا للنصر فى يوم القنال
والذى غنى لأيام النزال
وتغنَّى ببطولات الرجال

والذى حيا رؤى الفجر الجديدْ
بنشيدٍ رائعٍ إثر نشيد
للمنى .. للنصر .. لليوم السعيد
لانطلاق الشعب من أسر القيود

والذى أحيا خيال الشعراءْ
فسرت أرواحُهم عَبْرَ الغِناء
وتشَّتْ فى الأحاسيس الظِماء
قَبساً من مِشعَل النور المُضاء

قبساً من مِشعَل النور الجليلْ
لمحةً من عاَلم الفكر النبيل
نفحةً من رَوْضَةِ الحُسنِ الأصيل
تَغْمُرُ الأرواح جيلاً بعد جيل

أيها الحُزنُ .. وهل للحزنِ آخِرْ ..!
بين كفَّيكَ دموعى .. والمشاعر
أنا فى ليلك مثل النجم ساهر
أنا فى بَحركَ مثل الموج حائر

ذلك القلبُ .. تُرى كيف يصيْر ..
بعدما أصبحَ فى كَفِّ المصير ؟
إن يكن أمسَى نثيراً من نثير ..
أين يَغدو الحِسُّ منه والشعور ؟..

أَتُرى يَغدو تُراباً من تُرابْ !
أو سراباً يتلاشى فى سراب !
كخُظى الحائر يَمِشى فى ضباب ..
كصدى الصيحةِ فى وادى الخراب !

أين يغدو صَوتُه العذبُ الحنونْ ..
وصدى إحساسه الحُلو الرنين
أين تغدو فرحةُ العمرِ الضنين ؟
أين تغدو لوعةُ الليلِ الحزين ؟

ربما أضحتْ خريراً فى الجداولْ ..
أو حفيفاً بين أغصان الخمائل ..
أو حنيناً فى أغاريد البلابل ..
أو شجى ناىٍ يُغنِّى فى الأصائل !

ربما صارتْ رَفيقاً من جَناحْ ..
أو نشيداً من أناشيد الرياح ..
أو هزيجَ الموج يلهو فى مِراح ..
أو غِناءَ الأرضِ فى عُرسِ الصباح !

ربما أمستْ وجيباً فى القلوبْ ..
أو دعاءً من حبيب لحبيب ..
أو خُطى إلفين ظِلِّ الغروب
يُنشِدان الحُبَّ للأفقِ الرحيب !

إن يكن ذاك فمرحَى للدموعْ ..
ووداعاً أيها الروح الوديع ..
وسلاماً أيها اللحنُ الرفيع
سوف تحيا بين أعماق الضلوع