الشاعر محمود توفيق: القافلة

القافلة

القافلة

حِكايتى- يا إخواتى- لم يَروِها إنسانْ ..
ولم يَجُدْ بها خيالُ شاعرٍ فنان ..
ولا جرَى بها المدادُ فوق صفحةِ الورق !
حِكايتى منحوتةٌ من جوهر الحقيقة ..
قد خَطَّها العذابُ فوق صفحة الزمان ..
مِدادُها الدماءُ .. والدموعُ .. والعرق ..
...
من ألفِ عام-أو يزيدَ-فى حساباتِ البشرْ ..
خرجتُ من صنعاء فى قافلةٍ عظيمه
كانت أناختْ فى جوار الحى ليلتينْ..
ولم أكن أعرفُ ما يُخبِّى القْدَر!..
...
قافلةٌ غريبةٌ...مجهولةُ الهويَّة..
تسعى إلى مَدينةٍ غريبةٍ..قصِيَّه
وتحملُ النفيسَ من ذخائر الحياة.
قلائدٌ منظومةٌ من لؤلؤ البحارْ..
وأثمنُ العطور..والثياب..والبُخورْ
وأندرُ الحُلىِّ..والرياشِ..والجواهر..
تحملها رواحلٌ قويةٌ فتيه..
ولم يكن لى بينها..لاناقةٌ..ولا جَمَلَ!
...
لكننى كنت فتىَ فى ميعةِ الشبابْ
يضيقُ صدرهُ بالراحةِ المبذوله..
وبالسلامةِ الرخيصةِ الذليله..
تجيش فى فؤادِه خوارقُ الأَحلام
وفرحةُ الوجودِ..وانطلاقةُ الحياه
كأنه قد صيغ من جناح طائرٍ مهاجر..
يشُّده الحنينُ للبعيدِ..والمجهول..
ونَشوةُ الإِقدام فى مواقع الخطرْ!
...
سارتْ بنا الرواحلُ العَجولةُ الفتيةْ..
تشُّدُها إلى الرحيلِ قوةٌ خفيه..
كموجةِ تهيمُ منذ أقدام العصور..
تنداحُ فوق صفحةِ الزمان..والمكانْ!
...
سارتْ بنا عبرَ السهول الرحْبة المأهوله..
وفى دروب صعبة..نائيةٍ..مجهوله..
وفى ذرا الجبالِ..والهضاب..والتلال..
وفى وهاد لم يطأْ أيمَها بَشرْ!
...
سارتْ بنا فى ظُلمةٍ وحشيةٍ..ثقيله..
وتحت أبصار كواكبٍ قصيةٍ.. عليله..
وفى عِماية الضباب..والمساء..والسحَرُ.
وتحت أضواء شموسٍ تخطِفُ البَصَرْ!
...
سارتْ بنا فى الصيفِ .. فى لوافح الهجيرْ..
وفى الشتاء .. فى مَهَبِّ الزمهرير..
وتحت أنواءِ الربيع.. والخريف ..
وفى مَداراتِ الفُصول الأَربعه!
...
كم أشرقتْ من حولنا وغابتْ الشموسْ..
وكم تهاوتْ النجومُ فى أغوارها السحيقه..
وكم تطلعتُ نفوسُنا العِطاش للسراب..
وكم تأرجحَ الوجودُ بين الوهم والحقيقه!
...
تشابهَ الطريق..واختفتْ معالم الدروبْ..
تداخل الزمانُ.. والمكانُ.. والشروقُ.. والغروب..
تميَّعَ الوجودُ..واضمحلَّ جوهرُ الأَشياء..
كأننا نهيمُ فوق كوكب غريبْ..
أو أننا نضربْ فى المطلق .. والمُحَال!
...
تبدَدَتْ من المسيرِ عزمة الرواحلْ..
تسرَبَتْ دماؤها على الصخورِ..والرمال..
أصابها طولُ الطريق بالكلالِ..والهُزول.
وأنقَضَتْ ظهورَها فداحةُ الأَحمال!
...
شابتْ نواصينا..وما نزالَّ نذرعُ الآفاق!
تصرْمَ الزمان..وانطَوَتْ صحيفة الأشواق!.
جفَّتْ ينابيعُ الصفاء تحت وطأة الشقاء.
وأْفعِمتْ نفوسُنا بالحزن..والجهامة..
وضاعتْ الأَحلامُ فى قساوة الطريق!
...
كم من رفاقٍ أسلموا أرواحَهم تحت العراء!..
غابوا عن الدنيا بلا حفلٍ يُقامُ..ولا رثاء..
لم تَبكِهم غير النجوم..وغير أنَّاتِ العواصف!..
فالركبُ يمضى..والضحايا يسقطون..
صَرْعَى .. حيارى .. عاجزون ..
لا يطلبون الْعون أو يتطلعون إلى عَزَاءْ..
فالوقت أضحى لا يُضارِعُه الذهبْ ..
الوقت أضحى لا تُضارعُه الدموعُ.. ولا الصلاه
الوقت أضحى لا يُضارِعُه سوى الدَّمُ والحياه
...
كنا كأَشباحٍ تسيرُ وقد تقادفها الشقاءْ..
وتَجْرُّأذيال التعاسةِ..والكآبة.والعناء
حتى برزنا فى المسيرة من وراء المنعطفْ..
وهناك زغردتْ الحياةُ بنشوة الأَمل القديم!..
فهناك من قلب الضَياع.. وعند مُنحدرَ الأَفق..
لاحتْ لنا قممُ المدينةِ تحت أضواء الشفق..
لاحتْ لنا..كالوهم..كالأَحلام جَسَّدَها الخيال
ياقوتةً حمراء تسطُع بالضياء وبالجمال!
...
لاحت على ضؤ الغروب..وفى مدى السهل الفسيحْ.
قِمَمُ الهياكل..والمعابدِ..والحدائق..والصُروخْ
فى مَشهد تهفو لروعته المشاعرُ والعيون
لم ترْوِهِ قِصصُ القُرون. ولا رآه الأَولون!
يا إخواتى قد آذَنَ الليلُ الطويلُ بانتهاء..
قليبكِ من يشاءُ..وليُصَلِّ من يشاء.
...
يا إخواتى غداً سندخل المدينة العَصِّيه..
ونطرَحُ الضنى..ونخَلعُ الملابسَ الزريَّه..
ونستريحُ فى الظِلال من مهالك السفر..
ونلبسُ الديباجَ والعمائمَ المُذهَّبه..
وننشُدُ العَزاءَ فى مجالسِ الشرابِ والسمرْ!
...
لكننى أسألكم بالله أيها الصحابْ..
من ذا الذى سعُبُر الأَسوارَ والأَبواب!..
ومن سيطُرقُ الساحاتِ..والحاناتِ.. والأسواق!
ومن سيدخُل الحدائق المعلقَّه!
هل نحنُ..أم قومٌ سوانا آخرون..
تسربوا داخلنا..على مدى الشتاتْ..
لم ياخذوا منا سوى بقايا الشكل والسمات!..
قومً تشكلتْ نفوسهم مِن قسوة الطريق..
وأْترِعَتْ بالحُزن..والعناء..والمللْ..
فهل سيرجِعُ الزمانُ..أم هل يرجِعُ الأَحباب؟
وهل سيرجِعُ الشبابُ..والمِراحُ ..والأَمل؟
...