الشاعر محمود توفيق: فى مكان ما

فى مكان ما

فى مكان ما

ها أنا أرنو إلى نفس الرؤى ..
ها أنا أمشى على نفس الترابْ !
ها هو المشهد حولى قائمٌ
لم تغير منه أيامُ العذاب
وكأَن القلبَ لم يعرف به
حسرةً عاش بها عَبْرَ الشباب .
حسرةً لم تنطفىءْ نيرانُها ..
وشباباً راح من غير مآب !
***
إذ وقفنا لوداع صامت ..
وحوالينا العيون الفاحصاتْ ..
وعلى صدرى حديد راسخ
وعلى وجهى قِناع من ثبات !
وبقلبى رِعشةٌ لا تنتهى ..
ولهيبٌ أشعلته النظرات
وسرتْ فى راحتينا هِزةٌ
فى التقاء لم يزدْ عن لحظات
خِلتها أيام عُمرٍ ضائع
يتوارى فى ظلال الحسرات !
***
ثم أسرعت إلى سيارةٍ
وأنا فى غمرة الوجد العصيبْ
كنت عنها ذاهلاً فى لوعتى
وكأَنى كنت فى حُلم غريب
كلَّ ما أذكره .. نافذةٌ
خلفها وجه يغطيه الشحوب
خلفها عينان فى لونهما
تتمشى زُرقة البحر المهيب
وفم منفرج عن رعشة ..
يتلاقى الصمتُ فيها .. والنحيب !
ويد تهتز فى إِيمائهٍ
مثلما تومىء شمسٌ بالمغيب
***
ثم ولى عن عيونى نورُها
حين أصبحتِ وراء المنعطفْ ..
أدعى الصبر .. وصبرى واهنٌ ..
وفؤادى فى ضلوعى يرتجف ..
وإذا بى غارق فى حيرة ..
لست أدرى أين أمشى أو أقف !
***
كل هذا راح عنى وانقضى ..
كصدى الصيحة دوَّى فى الجبالْ ..
رددته بُرهةً أحجارها
ثمردَّته سريعاً للزوال !
وإذا الدنيا فراغ شاملَّ
لفَّها صمتٌ عسير الاحتمال
وكأَن الأَمسَ حلمٌ خادعٌ ..
وكأَن الأَمر وهمٌ وخيال !
***
بيننا يمتد سهل .. وجبلْ ..
وبحارٌ ببحارٍ تتصلْ ..
وحدودٌ بحدودٍ تلتقى ..
وشعوبٌ عن شعوب تنفصل
وصخور بجليد تكتسى ..
ورمالٌ بهجيرٍ تشتعل ..
وطريقٌ شاسعٌ لاينتهى ..
يتلاشى من حواليه الأَمل !
***
بيننا تنهض أعباء ثِقالْ ..
وقيودٌ راسخات كالجبالْ ..
ونفوس غافلاتٌ لاتعى ..
وأراجيفٌ وأقوالٌ تقال ..
وقوانين كستها صُفرةٌ ..
من جمودٍ وهزال وافتعال ..
تقتل الأَفراح فى مولدها ..
وهْى فى النفس جنينٌ ما تزال !
***
بيننا ينهض صدعٌ فاجعٌ
بيننا تنهض ماساة البشر !
وانفصال بين عقل قادرٍ ..
وقصور فادح لايُغتفر ..
وسؤالٌ حائر .. هل أمرُنا
باختيار .. أم قضاء وقَدَر !
أطريقُ الحق نهجٌ واضحٌ ..
أم شقاءُ .. وظلامٌ وحُفر !
وشراكٌ خادعاتٌ نٌصِبَت
فى خفاءٍ ودهاءٍ وحذر !
***
مِلْوءُ سمعى نبراتٌ أْرسلتْ
فى انسياب كخرير الجدول
أو كأَسرابِ طيور حُرَّة ..
تتغنى للصباح المُقبل ..
بعثت فى النفس أشواق الصبا ..
وأحاسيسَ الشباب الأَول !
***
ملءُ عينى بسمةٌ وضاءة
كشعاع الشمسِ عند المشرق ..
وشفاةٌ طالما راقبتُها
وهى تبدو فى بهاء الشفق ..
بستبينى كلُّ ما جادت به
من حديث ساحر مُنطِلق
تكتسى الأَلفاظُ من رقتها ..
والمعانى من صفاءِ الرونق
وكأَنى قائمٌ فى روضه
من سنا النورِ .. وروٌح العَبَق
***
ملءُ قلبى نظرةٌ أخاذة
شملتنى فى نطاق آسرِ !
وعيونٌ كلما طالعتُها ..
غِبْتُ فيهاعن وجودِ الحاضِر
يتلاقى الليل والبحر بها ..
رغم إِشراق الضياءِ الباهر
غلبَتْ فِىَّ غرور الثائرِ ..
ودَعَتْ فِىَّ شعور الشاعر !
حملتنى فوق أمواج الهوى
لرحاب مالها من آخر ..
***
لست أنسى ليلةً جادت بها
غفلةُ الأَيام من قبل الوداع
وبهاءُ النيلِ فى روعته ..
وجمالُ البدرِ من غير قِناع
وسكون الليل لا يقطعه .
من حوالينا .. سوى خفْق الشرا
يخطر الزورقُ فيه لاهياً
يتوانى .. ثم يمضى فى اندفاع
ليلةٌ هامت بها أحلامُنا
مثلما هامَ شعاعٌ بشعاع
ليلةً طالت بها أشواقُنا ..
أنا منكِ على قيد ذراع !
***
لست أنسى حينما سرنا مَعاً
نرقب الأَهرام فى صمت عميقْ
وأبو الهول يُراعى خطوْنا
مثلما يرنو صديقٌ لصديق !
ثم قادتنا خُطانا عُنوة
لنلاقى مَرْكبَ الشمس العتيق
ربما قد سيرتنا نحوه
حاجةٌ للبحث عن أْفق طليق  ..
ليْتهُ باحَ لنا عن سِرَّه ..
فعرفنا كيف نجتاز الطريق !
***
بيننا لو أحسنتْ أيامُنا
خطوةٌ كى نلتقى .. أو خطوتانْ ..
بيننا برقيةٌ ليس بها ..
غير تحديد زمان .. ومكان !
بيننا طائرةٌ نفاثةٌ ..
يتهاوى دونها قيدُ الزمان
تستمدُّ العزم من أشواقنا
وهى تمضى من عنان لعنان
فإذا كلُّ عسيرٍ هينٌ ..
وإذا العيشُ صفاءٌ وأمان !
***
هذه الأَحلامُ ما أعذبها
حينما تخفِق فى ليل العذابْ
كجناحىْ طائرٍ مُنطلِقٍ
يتعالى فوق أستار الضباب
مِلوءُ جنبيه قوىً جياشةٌ
وروءىً تحمله فوق السحاب
غير أن الأَرض ترنو نحوه
وهى تبدو فى هدوءٍ وارتقاب ..
فنداءُ الأَرض أمرٌ واقعٌ ..
وختامُ الأَمر لايعدو تراب !