الشاعر محمود توفيق: اليوم السعيد

اليوم السعيد

اليوم السعيد

حدثتنا عنه فى المهد أغانى الأُمَّهاتْ ..
وشفاهٌ رددتْ خفق القلوب الحانيات
تزرع الأشواق والأحلام فى دنيا الطفولة ..
جَنَّةً وارفة بالأمن والخفض .. ظليله ..
شمسهُا تختال فى كلِّ صباحٍ من جديدْ ..
فوق أرضٍ حُرَّةٍ تنعم باليوم السعيد !
***
غير أن المهد قد وَلَّتْ أغانيه العِذابْ ..
وتلاشى الحُلم ... وانجاب عن التيه السراب
وسرينا فى الدُجى نحمل إرهاق الدُهورْ
فى طريق يترامى بين شوكٍ وصخور !
***
أقريبٌ .. أم بعيدْ
ذلك اليوم السعيد ؟
حدثونا عنه أيامَ الصِبا والأُمنياتْ ..
حين كنا نتلاقى فى ظلال الأُمسيات ..
نرصُدُ الآمالَ والأحلام فى ليل الهمومْ ..
تحت دِفء النار فى الموقد .. أو ضوء النجوم ..
ونُراعى كل نجمٍ يتراءى من بعيدْ ..
علَّ فى مطلعه إشراقةُ اليوم السعيد !
***
غير أن النجم قد راح كليل العين حائرْ ..
لحظُهُ المنهَكُ لم ينظر .. ولم يحفَل بناظر ..
ةافترقنا ... ومضى السُمارُ فى صمتٍ عميق ..
واستحالوا وقع أقدامٍ على صخر الطريق !
***
أقريبٌ .. أم بعيدْ ..
ذلك اليوم السعيد ؟
***
حدثتنا عِنه أطيافُ حكاياتٍ حزينة ..
كان ياما كان .. فى الوادى .. وفى تلك المدينة ..
فارسٌ يختالُ كالفرحة فى زهو الشبابْ ..
بجوادٍ أشقرٍ يخطفُ أذيال السحابْ
قد دعاهُ ذات ليلٍ فى الدُجى صوتٌ جَسورْ ..
قال .."دع عنك الكرى . واركبْ .. وعجِّلْ بالمسيرْ" ..
فمضى ... يستبق الفجر .. إلى الأُفق البعيْد ..
ليُلاقى فوقه .. إشراقةَ اليوم السعيد !
***
غير أن الفارسَ السبَّاق أضناه الكلالْ ..
بينما الأفق على القُربِ .. بعيدٌ لاُينال !
وإذا الفارسُ مازال إلى اليوم يَسيرْ ..
فى إسار الأملِ الموعودِ .. والحُلم الكبيرْ !..
***
أقريبٌ ... أم بعيدْ ..
ذلك اليوم السعيد ؟
***
حدثتنا عنه أغانى فى الأصداءُ الحقولْ
ومواويلٌ عِذابٌ .. قد رواها ألفُ جيل ..
لحَنُها ينساب كالجدولِ من قلب السنين ..
مُفعماً بالشوقِ .. واللهفة .. والحُزن الدفين
وسؤالٍ حائرٍ ينساب فى كُلِّ نشيد.
أقريبٌ أم بعيدٌ ... ذلك اليوم السعيد ؟
***
غير أن اللحنَ مازال على كُلَّ لسانْ ..
والسؤالَ الحائر الموروث فى كل مكان ..
والمواويلَ تُفيض الدمع من كل العيون ..
وتُثير الوجد والأشجان فى القلب الحزين !
***
أقريبٌ ... أم بعيدْ ..
ذلك اليوم السعيد ؟
***
حدثتنا عنه فى الشِعر الخيالاتُ الجرئيه ..
والأحاسيسُ التى جاشتْ بأحلامِ وضيئه ..
كفَراشٍ راقصٍ للنور .. مبهور الجناحْ ..
أو كأسراب عصافيرَ تُغنَّى للصباح
فى طموحٍ عبقرىٍ .. لايُبالى بالقيودْ ..
لانبلاج الظُلمة الكبرى عن اليوم السعيد !
***
غير أن الشِعرَ مازال حَماماتٍ طريدة ..
عَزَّها المأوى فهامتْ ... فوق أفاقٍ بعيده ..
وترامى خَفقُها من بين أطباق الغيومْ ..
مُترعاً بالحُزن .. واللهفةِ .. والشوق القديم !
***
أقريبٌ ... أم بعيدْ ..
ذلك اليوم السعيد ؟
***
حدثتنا عنه أفكارٌ أضاءتْ فى الكُتُبْ ..
غمرتْ أروحنا منها بحارٌ من لَهَبْ ..
وتمشَّتْ بين أرجاء النفوس الطامحه ..
فى انطلاقٍ .. كأعاصير الرياح الجامحه ..
تتحدى اليأس ... والأقدار ... والليل العنيد ..
وهى تجدو مَوكب الفجر إلى اليوم السعيد !..
***
غير أن الريحَ مازلت تُدَوِّى فى البطاحْ ..
بينما الأجيالُ تمضى .. وهى ظمأى للصباح ..
وملايينٌ من الأرواح تذوى كالزهور ..
هاوياتٍ من يد الريح على الباب الكبير !
***
أقريبٌ ... أم سعيدْ ..
ذلك اليوم السعيد ؟
***
حدثتنا عنه صيحاتٌ على ثغر شهيدْ ..
يتهاوى فى النضال المُرِّ .. والهول الشديدَ ..
مُرسلاً من شاطئ الموت .. نداءات الأملْ ..
تتعالى فى ظلام الليل نوراً يَشتعلْ
وهتافاً صاخباً كالموج أو قصف الرعود ..
داعياً للهجرة الكبرى ... إلى اليوم السعيد !
***
غير أن الهول مازال مُحيطاً بالبشرْ ..
ورياحَ الموتِ فى الآفاق تعلو بالنُّذُرْ ..
والدمَ المسفوح مازال على الأرض يسيل ..
وهو ينساب كدربٍ أحمرٍ قانٍ طويل !
***
أقريبٌ ... أم بعيدْ ..
ذلك اليوم السعيد ؟
***
الذى فيه يفيض الماءُ من كل السَواقى ..
ويجف الدمعُ والأحزانُ من كل المآقى ..
الذى فيه يُقيمُ الفَرحُ فى كل القلوبْ ..
ويَرفُّ الوردُ والخُضرةُ فى كل الدروب ..
الذى فيه يُضىء الحُبُّ أيامَ البشرْ ..
ويزول الحقد والبغضاءُ منه والأشَر ..
الذى فيه تَزُفُّ الصبحَ أسرابُ الحمامْ ..
وهى تشدو فى مِراحٍ ... فوق أغصان السلام
الذى فيه تُغنِّى الأرضُ ألحان الأملْ ..
وهى نشوى بين أحضان الربيع المُتَّصِلْ !
***
أقريبٌ ... أم بعيدْ ...
ذلك اليوم السعيد ؟
***
قال قومٌ: تلك أضغاثُ خيالاتٍ قديمه ..
سوف تبقى مثلما ظلَّتْ .. خُرافاتٍ عقيمه ..
ليست الدنيا سوى دارٍ أُعدَّتْ للشقاء ..
ليس للأنسان فيها من مَفَرِّ أو رجاء ..
وسنبقى هكذا .. ما ظلَّتْ الأرضُ تدورْ ..
فانفِض الأحلام عن جفنيك .. واخضع للمصير !..
***
غير أنى قد أعرتُ النُصْح أُذناً جامده ..
ثم واصلتُ مسيرى ... فى الطريق الصاعده ..
فى طريق الأمل الموعودِ ... واليوم السعيد ْ...
لا أُبالى قُربَهُ الدانى ... ولا البُعدَ البعيد !