الشاعر محمود توفيق: قطرات .. من ثمالة الكأس

قطرات .. من ثمالة الكأس

قطرات .. من ثمالة الكأس

أَتَذكُرُ عهدَ الصِبّا فى المشيب ..
فتبكى عليه بدمعٍ صبيبْ !
تألَّقَ كالشمسِ عند الشروق
وأدبَر كالشمس عِند المغيب
مضتْ فرحةُ العمر من بعدهِ
وأجدَبَ روضُ الحياة الخصيب
تغَّير حولك وجهُ الزمانِ
وأصبحت تحيا به كالغريب
فهل يُرجِعُ الدمعُ صَفو الحياةِ ..
وهل يُرجعُ الدمعُ صفو القلوب !
...
وقالوا كبرنا وولَّى الشبابْ
وحفَّتْ ينابيعه الصافيهْ !
فلا النفسُ تبهجُها الطيباتُ
ولا القلبُ تدركه العافيه
تسَّرب منك ربيعُ الزمانِ
بخُضرة أيامه الزاهية
ويمضى الخريفُ ، ويأتى الشتاءُ
بأنوائه الجهمة العاتيه
ليندثرَ الزهرُ تحت الصقيع
وتنطفئَ الشعلة الباقيه !
...
كفَى شجناً أن عشقتَ الجمالَ
وعُدتَ .. وما نِلتَ غير الجراحْ !
وحلَّقتَ بالشوق صوبَ النجوم
.. إلى ان هوَيت كسير الجَناحْ !
تناوَشَكَ الحُسنُ منذ الصبا
وأضنى فؤادَك عشق الملاح
وكم يَستبيكَ بريقُ الشفاهِ
وومضُ العيون المراض الصِحاحْ
وكم بات قلبُكَ فوق الصليبِ
طعيناً يواجه عصفَ الرياح !
...
وأورثكَ السُقْمَ طولَ الحنينْ
ومَرَّ الزمانِ .. ووقعُ السنينْ
وشوقٌ إلى ما مضى غامِرٌ
يفيضُ به القلبُ ف كلِّ حينْ
يُحَرّكُ فيك جراحَ الأَسى
ويبعَثُ فيك الهُيامَ الدفين
فأصبحتَ تمشى وئيدَ الخطى
كسيف الملامح .. بادى الشجون
كأنك تحمل عبء الزمانِ
على كاهليك .. وحُزنَ القرون !
...
ويُسْهِدُ جفنيكَ ما فى الحياةِ
من الظُلمِ .. والغدرِ .. والابتذالْ
وأنّ الفضيلة قيدُ العفافِ
.. وأنّ الرذيلة عونُ الضلال !
وعصفُ التعاسةِ بالأبرياءٍ -
وآلامُهم فى الليالى الطوال
وبَطُش القوى .. وذلُّ الضعيفِ ..
وعَربدةُ الحظِّ فى كل حال
وكم يرفع الدهرُ شأنَ الوضيع ..
وكم يخذُلُ الدهرُ خيرَ الرجال !
...
وتَذكُرُ أحبابكَ الغائبينْ.
فتُجرى مع الشوقِ دمعَ العيونْ
عرفتَ مع الحُبّ دمع الفراقِ
وشجواً يؤرّق منك الجفون
ووقعَ الردى فى أحبِّ النفوسِ
إليكَ .. وفى الإخوةِ الأَقربين
تهاوتْ من الأُفقِ كلُّ النجومِ
وأمسيتَ فى وحشةٍ كالسجين
وكنتَ تُحاذِرُ كأسَ الفراق
.. فصرتَ تُعاقِر كأس المنون !
...
ألا رَجعَةٌ للزمان القديمْ ..
تُزيل عن النفس وقعَ الهمومُ !
زمانَ الصبا وارفٌ بالظلال
... وبستانه زاهرٌ بالكروم
وشَملُ الأَحبةِ لم ينفرطْ
وحَبْلُ المودَّةِ عِقْدٌ نظيم
ودنياكَ تمضى كمرِّ السحاب
رُخاءَ .. وتخطُر مثلَ النسيم
أولئكَ عهدٌ طواه الزمانُ
.. وأنَّى لعهد الصبا أن يدومْ !
...