الشاعر محمود توفيق: الأســد

الأســد

الأســـد

أشجَعُ الشُجعان ليثُ الغابِ سُلطانُ الفَلاه
سار فى الغابةِ يوماً وهو فى أوج قُواه
كان يمشى فى هدوءٍ وثباتٍ  ومهابه
يطأُ الأَرضَ وئيدَ الخَطوِ من فرطِ الصلابة !
كان حُراً  وفتياً  وعزيزاً  وقويا
كان مَخلوقاً أصيلاً  ونبيلاً  وأبيا
...
سارَ  يستروِحُ فى ظِلّ الغُصونِ السُندسية
فى دُروبٍ حَفِظتْ سِرَّ العُصورِ السرمديه
ينحنى السوسنُ والغارُ له حيثُ يسيرْ ...
وتَبُثُّ الأرضُ من أعطافها عِطرَ الدهور !
سار  فى مُنحدَر القاعِ  ومُتلفِّ الأَجمْ
ومضى يُصْعِدُ فى الغاب إلى أعلا القمم !
...
وقف الليثُ ليستمرىَ بأْسَ الأَقوياءْ
ويُجيلَ الطرَف من عليائه  حيثُ يشاء
كان جزءاً من عبير الأَرض من نبض الحياةْ
كلُّ ما فى الغابةِ العذراءَ يجرى فى دِماه
كُلُّ شىءٍ تحت عينيه صغيرٌ من بعيدْ
فى رحابِ الجنَّة الفيحاءَ والحُسنِ الفريد!
...
بين اعطافِكَ ياليثُ قوى الكونِ الخفيَّة
وبعينيكَ طيوفٌ  من شموسٍ عسجديَّة
وبأذنيك تراتيلُ أناشيدَ قصِيَّه
...
جَلسَ الليثُ ليسترخى قريرَ المُقلتينْ
وأراحَ الصدرَ والهامةَ فوق الساعدين
ومضى يَمزِجُ نورَ الشمس فى خُضرٍ الظلالْ
صوراً من صَنعَةِ الوهم ومن نَسيج الخَيال!
وكما تَهبِطُ فوق الدوحِ أسرابُ الحمام
هبط النومُ على الليثِ فأَغفى ثم نام!
...
نام ليثُ الغابِ  محفوفاً بأَحلامِ الأَمانْ
لا يُبالى وطأَةَ الدهر ولا غدرَ الزمان!
كان فى قُوَّتِهِ أثبتَ من صَخرِ الجبلْ
قَلبهُ المقدامُ لا يعرف ما معنى الوجل
ومن القوة ما يَفضى لضعف الأَقوياء
حينما يطغى على القوة زهوُ الكبرياءْ
...
نام ليثُ الغابِ والشرُّ محيطٌ لم يَزَلْ
يتوخى نكبة الحُرِّ  وإذلالَ البطل !
أيها اليثُ تنَّبه  لأَحابيلِ القدرْ
وامزج القوة والجرأة دوماً بالحذر ....
انفضْ الأَحلامَ عن جفنيكَ وافتحْ مُقلتيكْ
لا تدعْ للشرِّ أن ينفُذَ بالغدرِ إليك
...
حين نامَ الليثُ وانداحَ على الغاب السكونْ
جاءَ سهمُ الغدرِ كالومضةِ من بين اغصون
جاء كالإعصارِ  كالأَقدار  فى لمح البصرْ
كشهابٍ فى ظلامِ الليلِ يرمى بالشرر .
لُيصيبَ الكاهلَ الجبار ما بين الضلوعْ
نافذاً فى العَضلِ المفتول  والصدرِ المنيع!
...
آه  ما أنكى جِراح الغَدرِ فى صدرِ الشهامة !
ينقضى الدهرُ  ووجهُ الغدرِ يزدادُ دمامه !..
ناشراً من ليله الداجى على الصُبحِ قتامه !
...
هبّ ليثُ الغابِ والطعنةُ مابين الضلوعْ
كاتماً صرخة حُزنِ جاش فى القلب الوجيع
فأسود الغاب لا تصرُخُ مهما تتعذب
بل تُدارى الجُرح فى الأَعماقِ حتى تتأَهب
ومضى ينزَعُ سهمَ الغدرِ من بين الجراحْ
ساكباً من دمه الغالى على الأَرض البراح!
...
سار فى الغابة مهزومَ الخُطى نحو العرينْ
فى ظلال السَوسنِ الوالِهِ والغارِالحزين  تخشَعُ الأَشجارُ  والأَطيارُ  من حزنٍ عليه
ويلين الصخرُ من إشفاقه بين يديه
سابحاً فى لُجةِ الآلام والحزنِ العميق
جاعلاً من دمه القانى علاماتِ طريق !
...
عَبرَ الغابة مكلومَ الحشا مُضنى الجسدْ
وعلى أرضِ العرين الموحِش الخالى رقد
ضاقتْ الأَرضُ عليه وانطوى الكون الفسيح
فترامى لاهثَ الأَنفاسِ  من وقع الجروح
فى ضباب الأَلم الفادح تاهت مقلتاه
كغريق يترامى بين موتٍ وحياه!
...
عندما يسقُطُ ليثُ الغابِ تختالُ الضِباعْ!
ويكونُ الذئبُ فيهِ صاحبَ الأَمرِ المطاع
ويُلِّحُ النَمِرُ المفتونُ فى سفكِ الدماءْ !
ويَعُمُّ الغدرُ والقسوةُ فيه والشقاء
عندها ينفرط العِقدَ وتختلُّ الأمورْ
فى غيابِ الساعدِ الجبارِ والقلب  الكبير !
صاحبُ القُوةِ والسَطوةِ أضناه الكلالْ
وألحَّتْ وطأةُ الضعفِ عليه
والهُزال!
زاهدٌ  طاوى الحشا  يقتاتُ بالحزن الكبيرْ
ما خلا شَربةَ ماءٍ  فاضَ من بين الضخور
غارقٌ فى لُجةِ الآلام  والصمتِ العميقْ
قاطِعٌ مُهد الليالى دون إلْفٍ أو صديق !
...
فى فؤادِ الليث من غدرِ العِدا جُرحٌ دفينْ .
وجراحٌ دامياتٌ  من جُحودِ الأَقربين !
تَهجعُ العينُ  ولا يهجَعُ فى القلب الأَنين !
...
طالَ ليلُ السُقمِ والداءُ مقيمٌ لا يزال
وأمانى العيش كالأَوهام..أو طيف الخيال
والردى يظهر كالأَشباح فى قلب الظلامْ ..
لعيونٍ شَفَّها السُهدُ وجافاها المنام
أيها الكون الذى ضَنَّ بأسرار الوجودْ
أنا ذا قبضةُ تُربٍ لثرى الأَرض تعود !
...
حين يأْتى البُرءْ يهمى مثل أنداء الربيعْ
أو كما تبتدِرُ العينُ بحباتِ الدموع
أو كما يَطْلُعُ نور الفجر من جُنح الظلام
أو كما يسطَعُ ومضُ البرقِ فى قلب الغمام
أو كما يُولدُ نجمٌ يتراءى من بعيدْ
أو كما ينفلِقُ الحَبُّ عن النبتِ الجديد !
...
حين يأْتى البُرءُ .. تستيقظُ أشواقُ الحياه !..
وتموجُ الأَرضُ بالوردِ .. وقد رفَّ شذاه !
ويَلوحُ الكونُ للكائِنِ فى أبهى رؤاه !
...
حين جاء البُرءُ راحَ الليثُ فى نومٍ عميقْ
مثلما يُطبِقُ موجُ البحرِ من حول غريق !
نومةً .. تمحو عن الكائن آثار الزمنْ
وتُداوى عِلَّة الروحِ وأسقامِ البدن
نَومَةً .. تَفصِلُ ما بين وجودٍ .. ووجودْ
عندما يخطو بها الكائنُ للعبثِ الجديد !
...
نهضَ الليثُ .. وقد لاحتْ تباشيرُ الصباح
نشِطاً كالريح إن هَبتْ على الأرضِ البَراح
ومضى يَستَبِقُ الفجر .. إلى الأَفق البعيد
مفعَماً بالبأْسِ .. والنشوةِ .. والعزمِ الجديد
مُرسِلاً فوقَ الأَعالى .. صَيحةالليثِ الجسور ..
فَعَلتْ فى الغابة العذراء أصداءُ الزئير !

ليست هناك تعليقات :

إرسال تعليق